بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
للعبد ستر بينه وبين الله :
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة جديدة من فوائد الكتاب القيم " الفوائد " لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من هذه الفوائد ، للعبد ستر بينه وبين الله ، الستر غير ستر ، ستر مصدر، عملية إرخاء الستر تسمى ستراً ، أما هذا القماش الذي يوضع على النوافذ يسمى ستراً ، كالشق والشق ، للعبد ستر بينه وبين الله ، أي هناك خطوط حمراء المؤمن لا يجتازها، لا يكذب ، لا يحتال ، لا يخون ، لا يستهزئ ، لا يستعلي ، لا يستكبر ، بحياة المؤمن خطوط حمراء كثيرة ، الإيمان قيد الفتك لا يفتك ، لا يغش ، لا يحتال ، لا ينتقم ، لا يقسو ، لا يكيل الصاع بصاعين :
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ .
( سورة الشورى الآية : 40 )
الصاع بصاعين ، غير صحيح ، للعبد ستر بينه وبين الله ، وستر بينه وبين الناس، أي له مكانة ، الناس يهابونه ، يحترمونه ، يظنون به خيراً ، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الستر الذي بينه بين الناس ، لمجرد أن تسوء علاقتك بالله ، الله عز وجل يعاقبك بأن يفسد العلاقة بينك وبين الناس .
من أصلح علاقته مع الله أصلح الله علاقته مع الناس :
لذلك الأصل أن تكون علاقتك بالله طيبة ، لذلك قال تعالى :
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ .
( سورة الأنفال الآية : 1 )
أي أصلحوا علاقتكم مع الله ، المعنى الثاني واصلحوا علاقتكم مع الخلق ، أنا من حين لآخر تأتيني رسالة تهنئة أجيب عليها بما يلي ، أقول : أسأل الله أن يجعل علاقتك مع الخالق ومع الخلق علاقة طيبة ، البطولة لا أن تكون ذكياً ، تتمتع بذكاء اجتماعي ، تكون علاقتك بهذا الذكاء مع الخلق طيبة ، البطولة أن تكون علاقتك بالله طيبة ، من نتائج هذه العلاقة الطيبة الله عز وجل يجعل علاقتك بالناس طيبة ، هناك حديث يقول : "من أصلح علاقته مع الله أصلح الله علاقته مع الناس " .
قال : فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه بين الناس .
تذهب مكانتك ، يذهب تألقك ، تذهب هيبتك ، فلذلك الأصل أن تحسن العلاقة مع الله :
(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء)) .
[من مختصر تفسير ابن كثير]
أي علاقتك مع ربك إن صحت تصلح علاقتك مع زوجتك ، ومع أولادك ، ومع جيرانك ، ومع أخوانك ، ومع من حولك ، ومع من فوقك ، ومع من تحتك .
هذه فائدة من فوائد كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى .
للعبد رب هو ملاقيه وبيت في الدار الآخرة هو ساكنه :
للعبد رب هو ملاقيه ، وبيت في الدار الآخرة هو ساكنه ، بربكم مثل أضعه بين أيديكم ؛ لو أن بلداً نظام الإيجار فيه عجيب ، أي مستأجر في أية ثانية يأمره بها صاحب البيت يخرجه من البيت ، ولا يستطيع أن يأخذ معه شيئاً ، فرش البيت ، الثريات ، السجاد ، الأثاث الفاخر ، الأجهزة الكهربائية ، يأمره صاحب البيت أن يخرج فيخرج في ثيابه فقط ، فإذا إنسان مستأجر هذا الإيجار معه أموال جيدة ، هل من العقل أن ينفقها كلها في هذا البيت الذي سيغادره بأية لحظة ولا يبقى له منه شيء ؟ مستحيل ، إن كان لك بيت بعيد وهو على الهيكل ألا ينبغي أن تنفق المال لكسوة هذا البيت وتأسيسه ؟ هذا الواقع تماماً ، كل شيء تحصّله في الدنيا تخسره في ثانية واحدة ، دقق إنسان يسكن في بيت أربعمئة متر ، ثمنه يزيد عن مئة مليون ، فيه أثاث بعشرة ملايين ، فيه أجهزة كهربائية ، له إطلالة جميلة ، خمس سيارات أمام الباب له ولأولاده ، إذا توقف قلبه مصيره إلى القبر ، تجمد الدم في أوعيته مصيره إلى القبر ، نمت خلاياه نمواً عشوائياً مصيره إلى القبر ، كل مكانتك ، وهيبتك ، وسيطرتك ، وحجمك المالي ، وحجمك الاجتماعي ، وحجمك الإداري ، ومرتبتك العلمية ، والشهادات التي حصلتها ، كل هذا المجد متوقف على ضربات القلب ، أو على سيولة الدم ، أو على نمو الخلايا ، ففي أية لحظة تجد أنك فقدت كل شيء ، وليت الأمر ينتهي عند هذا بل دخلت في حساب عسير :
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)﴾
( سورة المدثر )
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
( سورة الحجر )
الغبي من لا يدخل الآخرة في حسابه :
والله الذي لا إله إلا هو ما على وجه الأرض من غبي أشد غباءً من الطغاة ، لأنهم لم يدخلوا في حسابهم أن الله سيحاسبهم ، والله ما من قطرة دم تراق على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا وسيسأل عنها إنسان :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ﴾ .
( سورة القيامة)
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا (115) ﴾.
( سورة المؤمنون )
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾.
( سورة الحجر )
على كل إنسان أن يسترضي ربه قبل لقائه ويعمر بيته قبل الانتقال إليه :
للعبد رب هو ملاقيه وبيت في الآخرة هو ساكنه ، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه ، الموظفون الأذكياء في وزارة ما إذا استقالت الوزارة يسألون من الوزير القادم ؟ حتى يقيموا معه علاقة طيبة ، لأن أمرهم بيده في المستقبل ، الأذكياء في الدنيا هكذا يفعلون ، الله عز وجل يقول :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾.
(سورة الغاشية)
إنسان مضطر إلى ثلاثمئة ألف ـ قصة قديمة ـ عنده مزرعة فيها مسبح ، وفيها بيت جميل ، هو مضطر لهذا المبلغ ، عرض أن تكون هذه المزرعة رهناً لهذا المبلغ ، فإذا تمّ تسديده يسترجع المزرعة ، هناك إنسان دفع المبلغ وقال له : سجلها باسمي كرهن ، فسجلها وبعد سنتين أو ثلاث قدم له المبلغ قال له : لا يوجد داع لهذا كل واحد عنده حقه ، المزرعة ثمنها مليونا ليرة ، أخذها بثلاثمئة ألف ، صاحب المزرعة من شدة الألم أصابته أزمة قلبية ، وشارف على الموت ومات ، قبل أن يموت أوصى ابنه الأكبر ، البيت مثلاً في المهاجرين وهذا الخصم اللئيم الذي اغتصب منه المزرعة في أقصى دمشق ، قال له : سر بالجنازة إلى باب محله التجاري ، وقدم له هذه الرسالة ، قال له : أنا ذاهب إلى ديار الحق وسأحاسبك هناك وإن كنت بطلاً لا تلحقني ، سمعت أن هذا الإنسان ردّ المزرعة للورثة .
للعبد رب هو ملاقيه ، وبيت في الآخرة هو ساكنه ، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه ، وأن يعمر بيته قبل الانتقال إليه.
يا أيها الأخوة الكرام ، الموت شيء مخيف جداً من كل شيء إلى قبر ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( أكثروا من ذكر هادم اللذات ـ مفرق الأحباب ـ مشتت الجماعات )) .
[أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به )) .
[ أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر ]
إضاعة الوقت أشد من الموت :
فائدة أخرى ، إضاعة الوقت أشد من الموت ، كلام خطير ، والله الذي لا إله إلا هو ترى المسلمين أتفه شيء في حياتهم الوقت ، أرخص شيء في حياتهم الوقت ، يلعب النرد للساعة الثالثة ماذا فعلت ؟ نم ، استرح ، اقرأ كتاباً ، تعلم مسألة ، اقرأ قصة مؤثرة هادفة ، اقرأ بحثاً في الفقه ، أقرا حياة صحابي ، اجلس مع أهلك وأولادك ، سامرهم ، حدثهم .
إضاعة الوقت أشد من الموت ، لماذا ؟ قال : لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة ، غفلت عن سرّ وجودك وعن غاية وجودك ، والموت يقطعك عن الدنيا ، الموت الذي هو أكبر مصيبة ينهي حياتك الدنيا ، لكن إضاعة الوقت تنهي الآخرة بأكملها ، لذلك الوقت في حياة المؤمن ثمين جداً ، الله عز وجل قال :
﴿ وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ﴾ .
( سورة العصر ) .
الخسارة ناتجة أن مضي الزمن يستهلك الإنسان ، لكن الإنسان يتلافى هذه الخسارة إذا عمل في الوقت الذي سينقضي عملاً ينفعه بعد مضي الوقت ، ما العمل الذي ينفعك بعد مضي الوقت ؟ ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بحثوا عن الحقيقة ، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ ودعوا إليها ، ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ﴾ صبروا عن البحث عنها ، والعمل بها ، والدعوة إليها ، هذه عند الإمام الشافعي أركان النجاة .
لذلك إضاعة الوقت أشد من الموت ، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة ، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها .
الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غمّ ساعة :
الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر ؟ أي لا سمح الله ولا قدر لو أصبت بالتهاب عصب من أعصاب أسنانك ، والأطباء لم يتيسر لك أن تتصل بهم بعد الساعة الثانية ليلاً ، والآلام لا تحتمل ، وكنت حاضراً مئة وليمة ، لو تذكرت هذا الطعام الذي أكلته هل ينتهي الألم ؟ لو تذكرت هذه الولائم التي استمتعت بالطعام فيها هل هذا التذكر ينسيك آلام الأسنان ؟
قلت مرة : لو إنسان أعطيناه خمس سنوات ، يستمتع ما يشاء بالدنيا ، أعطيناه مبلغاً فلكياً ، و قلنا له : سافر إلى أي مكان ، وانزل في أجمل مكان ، ومارس أي شهوة من دون قيد ، ولا شرط ، ولا حساب ، لكن بعد هذه السنوات الخمس هناك شهر تعذيب لا يحتمل، هل تقبل ؟ خمس سنوات استمتاع بالحياة ، وشهر تعذيب لا يحتمل ، فكيف لو كان العكس سنوات معدودة في الدنيا يستمتع بها ويأتي عذاب أبدي ؟ الله عز وجل يقول :
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ .
( سورة البقرة ) .
الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة .
الأشياء المكروهة عند أهل الدنيا يوم القيامة تكون محبوبة و ترقى بها عند الله تعالى :
أيها الأخوة الكرام ، من الحكم الرائعة محبوب اليوم يعقبه المكروه غداً ، الشيء المحبوب ، الآن هناك أفلام ، هناك مواقع إباحية ، إطلاق بصر في الطريق ، انغماس في الملذات ، سهرة مختلطة فيها غمز ولمز وتطلع إلى عورات النساء ، الأشياء التي يرغبها أهل الدنيا أهل الضلال مكروهة يوم القيامة ، والمكروهات في الدنيا جالس في البيت ، مستريح ، مقعد وثير ، فواكه أمامك ، زوجتك ، أولادك ، قم والبس واذهب إلى المسجد ، اسمع درساً ، تركب أول سيارة والثانية ساعة ، وعلى الأرض لا يوجد كأس شاي ولا قهوة ، واسمع الدرس وارجع إلى البيت مرة ثانية ، نمت الساعة الثانية الفراش وثير ودافئ ، أذن الفجر انزع اللحاف عنك ، وتوضأ ، واذهب إلى الجامع ، وصلِّ ، والله شيء صعب ، صم طوال النهار ، تشتهي كأس ماء ، كأس شراب ، كأس شاي ، الطعام بالثلاجة أمامك ، والماء بارد في الثلاجة ، لا تستطيع أن تشرب لأنك صائم ، تمر امرأة جميلة في الطريق قال الله لك : غض بصرك ، تغض بصرك عنها ، معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين ، الأشياء المكروهة عند أهل الدنيا يوم القيامة تكون محبوبة ، بها ترقى عند الله ، هذه البطولة أساساً أن تعمل عملاً في الدنيا ينفعك إلى الأبد .
الأحمق من باع الجنة بشهوة ساعة :
أيها الأخوة الكرام ، قال : كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؟
ألا يا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً عميقاً ، إنسان سافر وارتكب الفاحشة في السفر ، وانتقل له مرض جنسي خطير ، يقول لصديقه : أكاد أذوب كيف لو علمت زوجتي أنني خنتها ، والمرض خطير ، وينتشر في الجسم ، ومعروف ، لذلك ألا يا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً عميقاً .
لكن هناك ملاحظة أذكرها لكم ، كان الإنسان إن سافر إلى بلاد الغرب ، وطرق باب غرفته ليلاً ، فإذا كان مؤمناً يقول : معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ، وكأنه وقف موقف سيدنا يوسف ، يشعر باعتزاز ، يشعر بقرب من الله ، يشعر أن الله غال عليه ، الآن يمكن أن يرفض لكن يخاف من الإيدز فقط ، أحبط الله أعماله ، كانوا يخافون من الله فيرتقون بهذا الخوف الآن يخافون من الإيدز فقط .
فوائد قيّمة :
1 ـ الله عز وجل إذا خفته أنست به و اقتربت منه :
قال : المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه ، لكن الله عز وجل إذا خفته أنست به واقتربت منه ، فرق كبير بين أن تخاف من مخلوق فيوحشك ويخيفك ، وبين أن تخاف من خالق السماوات والأرض فيؤنسك ويقربك .
2 ـ ارتباط العلم مع العمل مع الإخلاص :
قال : لو نفع العلم بلا عمل لما ذمّ الله عز وجل أحبار أهل الكتاب ، علم بلا عمل لا قيمة له ، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذمّ الله المنافقين .
3 ـ بطولة الإنسان أن يراقب نفسه و أن يكون حريصاً على سلامة قلبه :
آخر فقرة وفائدة دافع الخاطرة ، قد تأتيك خاطرة لا ترضي الله ادفعها عنك ، فإن لم تفعل انقلبت الخاطرة إلى فكرة ، ادفع عنك هذه الفكرة ، فإن لم تفعل انقلبت الفكرة إلى شهوة فحاربها ، فإن لم تفعل صارت الشهوة عزيمة وإرادة فإن لم تدفعها صارت فعلاً ، فإن لم تتداركه بضده صارت عادة وعندئذ يصعب الخروج منها .
الخاطرة إلى فكرة إلى شهوة إلى إرادة إلى فعل إلى عمل ، فالبطولة أن تراقب نفسك وأن تكون حريصاً على سلامة قلبك .
No comments:
Post a Comment