يحدث في مصر الأخرى – فهمي هويدي
مقالة
مصر الأخرى ــ غير التلفزيونية ــ ليست مشغولة بالضجيج الذي يملأ فضاء القاهرة حول المرشحين للرئاسة وكتابة الدستور وأنف البلكيمي والألتراس وسحب الثقة من الحكومة، وصولا إلى بلطجية ميدان التحرير.
ذلك أن ملايين الفلاحين تطحنهم قائمة طويلة من المشكلات التي تهدد مصائرهم واستمرارهم في الحياة.
حين حاولت أن أتحرى تداعيات انتشار مرض الحمى القلاعية قاتل الماشية والريف المصري، قيل لي إن الوجع أصبح يفوق طاقة الاحتمال. وإن الكارثة خربت بيوت أعداد هائلة من الفلاحين، المثقلين بالهموم أصلا، حيث لديهم ما يكفيهم منها. طلبت إيضاحا فقيل لي ما يلي:
* إن التعامل مع وباء الحمى القلاعية لم يكن جادا في أي مرحلة، فقد حدث التراخي في مواجهته حين ظهرت مقدماته منذ ثلاثة أشهر. وحين انتشر الوباء فإن اللقاح المقاوم له (سات2) اختفى من الأسواق.
* إن المرض مستورد وقد دخل إلى البلاد من خلال المحاجر الطبية التي يمر بها كل حيوان يأتي من الخارج. وحين تمر جرثومته، فذلك يعني أن ثمة ثغرة خطيرة في الوقاية والتفتيش. ولم يقف الأمر عند حد الإهمال في الرقابة، وإنما حدث إهمال آخر في التوعية والإرشاد. الأمر الذي ترك الفلاح حائرا وعاجزا أمام المرض الذي فتك بماشيته.
* في التصدي للوباء صدر قرار بإغلاق الأسواق الريفية بدعوى وقف انتشار المرض. ولكن الجهة التي أصدرت القرار انطبق عليها المثل القائل «جاء يكحلها فأعماها».
ذلك أن مسؤوليها لا يعرفون أن الأسواق تعد أحد شرايين استمرار الحياة في القرى. فإلى جانب بيع الماشية تباع فيها الطيور والأغنام والبذور وأدوات الزراعة وقطع الغيار ومنتجات الألبان..إلخ. الأمر الذي يعني أن السوق توفر للفلاح ما يحتاجه، إلى جانب أنها تمنحه فرصة بيع ما يريد بيعه للاستعانة بعائده في تلبية متطلبات معيشته. وبدلا من منع دخول الماشية (الأبقار والجاموس)، فإن القرار أغلق الأسواق تماما ومن ثم أغلق المنفذ الذي يوفر للفلاح مختلف احتياجاته.
* لكي يخدم الفلاح أرضه بحرثها وريها ورشها لمقاومة الآفات. يتعين عليه أن يستخدم جرارا أو ماكينة أو موتور رش، وكل واحدة من تلك الآلات تدار بالسولار، غير المتوافر في الأسواق. والحصول عليه يفرض على الفلاح أن يدفع أضعاف الثمن المقرر، ثم عليه بعد ذلك أن يقضي عدة أيام منتظرا دوره في الطابور.
* لكي يزرع الفلاح لابد له من بذور، وهذه غير مضمونة المصدر والشكوك أصبحت مثارة حول صلاحيتها. ولمحافظة المنوفية تجربة مرة في هذا الصدد. حيث تفحم محصول الذرة تماما بسبب البذور الفاسدة التي وزعت على الناس، ولم يحاسب أحد على ذلك.
وإلى جانب البذور فالسماد مشكلة أخرى، لأن أسعاره في ازدياد مستمر، كما أن فاعليته في تراجع مماثل، إضافة إلى أنه يندر وجوده حين يحتاجه الفلاح.
* الري مشكلة أخرى، ففي زمن سابق كان يمكن التأريخ بموعد نوبة الري لدقتها. أما الآن فإن المياه أصبحت تأتي «على الكيف» كما يقول الفلاحون، إذ لم يعد بمقدور الفلاح جدولة ري المحصول طبقا لاحتياجاته أو قواعد ريه المتعارف عليها، لأن الأمر بات مرهونا بتساهيل مديري الري.
في ذات الوقت ثمة مشكلة أخرى في المصارف المغطاة، لأن الشبكة أصبحت ضعيفة والصيانة منعدمة ولا إصلاح بها بأي صورة. وهو ما أدى إلى ارتفاع المياه الجوفية وتراجع خصوبة الأرض التي انعكس على ضعف الإنتاج. وترتب عليه ظهور بوادر الملوحة على سطح الأرض.
هذه العوامل كلها تحولت إلى هموم وأعباء إضافية على الفلاح هزمته وأثقلت كاهله. وكانت النتيجة أنه أصبح يبيع محاصيله إما بخسارة أو بأسعار لا تعود عليه بما يستحقه من ربح.
وبات معروفا أن محصول الذرة خسارته مؤكدة، حيث يضطر الفلاح إلى زراعته لإطعام الماشية والطيور، رغم أنه يخسر في الأردب نحو عشرين جنيها.
ومعروف أن محصول البطاطس ضرب هذا العام بسبب عدم التصدير، وشمل ذلك الموالح أيضا التي بيعت على أرضها بأبخس الأثمان لذات السبب.
وطالت الأزمة القطن الذي كان يسمى بالذهب الأبيض. ولكنه أصبح يتراكم الآن عاما بعد عام، وتحول إلى عبء على المنتجين.
في هذه الأجواء اختفت فكرة التسويق التعاوني وأصبح الفلاح تحت رحمة الوسيط الذي يقهره ويبتزه، كما لم يعد هناك وجود لدور الإرشاد الزراعي الحكومي.
حتى نقل المحاصيل بات مشكلة لأن شبكة الطرق الريفية غير المسفلتة التي تمثل جسور الترع والمدقات لم تعد صالحة للاستعمال، بعدما كاد يلتهمها التمدد العمراني،
إن مصر التلفزيونية تضللنا وتعزلنا عما يجري في قاع المجتمع.
مقالة
مصر الأخرى ــ غير التلفزيونية ــ ليست مشغولة بالضجيج الذي يملأ فضاء القاهرة حول المرشحين للرئاسة وكتابة الدستور وأنف البلكيمي والألتراس وسحب الثقة من الحكومة، وصولا إلى بلطجية ميدان التحرير.
ذلك أن ملايين الفلاحين تطحنهم قائمة طويلة من المشكلات التي تهدد مصائرهم واستمرارهم في الحياة.
حين حاولت أن أتحرى تداعيات انتشار مرض الحمى القلاعية قاتل الماشية والريف المصري، قيل لي إن الوجع أصبح يفوق طاقة الاحتمال. وإن الكارثة خربت بيوت أعداد هائلة من الفلاحين، المثقلين بالهموم أصلا، حيث لديهم ما يكفيهم منها. طلبت إيضاحا فقيل لي ما يلي:
* إن التعامل مع وباء الحمى القلاعية لم يكن جادا في أي مرحلة، فقد حدث التراخي في مواجهته حين ظهرت مقدماته منذ ثلاثة أشهر. وحين انتشر الوباء فإن اللقاح المقاوم له (سات2) اختفى من الأسواق.
* إن المرض مستورد وقد دخل إلى البلاد من خلال المحاجر الطبية التي يمر بها كل حيوان يأتي من الخارج. وحين تمر جرثومته، فذلك يعني أن ثمة ثغرة خطيرة في الوقاية والتفتيش. ولم يقف الأمر عند حد الإهمال في الرقابة، وإنما حدث إهمال آخر في التوعية والإرشاد. الأمر الذي ترك الفلاح حائرا وعاجزا أمام المرض الذي فتك بماشيته.
* في التصدي للوباء صدر قرار بإغلاق الأسواق الريفية بدعوى وقف انتشار المرض. ولكن الجهة التي أصدرت القرار انطبق عليها المثل القائل «جاء يكحلها فأعماها».
ذلك أن مسؤوليها لا يعرفون أن الأسواق تعد أحد شرايين استمرار الحياة في القرى. فإلى جانب بيع الماشية تباع فيها الطيور والأغنام والبذور وأدوات الزراعة وقطع الغيار ومنتجات الألبان..إلخ. الأمر الذي يعني أن السوق توفر للفلاح ما يحتاجه، إلى جانب أنها تمنحه فرصة بيع ما يريد بيعه للاستعانة بعائده في تلبية متطلبات معيشته. وبدلا من منع دخول الماشية (الأبقار والجاموس)، فإن القرار أغلق الأسواق تماما ومن ثم أغلق المنفذ الذي يوفر للفلاح مختلف احتياجاته.
* لكي يخدم الفلاح أرضه بحرثها وريها ورشها لمقاومة الآفات. يتعين عليه أن يستخدم جرارا أو ماكينة أو موتور رش، وكل واحدة من تلك الآلات تدار بالسولار، غير المتوافر في الأسواق. والحصول عليه يفرض على الفلاح أن يدفع أضعاف الثمن المقرر، ثم عليه بعد ذلك أن يقضي عدة أيام منتظرا دوره في الطابور.
* لكي يزرع الفلاح لابد له من بذور، وهذه غير مضمونة المصدر والشكوك أصبحت مثارة حول صلاحيتها. ولمحافظة المنوفية تجربة مرة في هذا الصدد. حيث تفحم محصول الذرة تماما بسبب البذور الفاسدة التي وزعت على الناس، ولم يحاسب أحد على ذلك.
وإلى جانب البذور فالسماد مشكلة أخرى، لأن أسعاره في ازدياد مستمر، كما أن فاعليته في تراجع مماثل، إضافة إلى أنه يندر وجوده حين يحتاجه الفلاح.
* الري مشكلة أخرى، ففي زمن سابق كان يمكن التأريخ بموعد نوبة الري لدقتها. أما الآن فإن المياه أصبحت تأتي «على الكيف» كما يقول الفلاحون، إذ لم يعد بمقدور الفلاح جدولة ري المحصول طبقا لاحتياجاته أو قواعد ريه المتعارف عليها، لأن الأمر بات مرهونا بتساهيل مديري الري.
في ذات الوقت ثمة مشكلة أخرى في المصارف المغطاة، لأن الشبكة أصبحت ضعيفة والصيانة منعدمة ولا إصلاح بها بأي صورة. وهو ما أدى إلى ارتفاع المياه الجوفية وتراجع خصوبة الأرض التي انعكس على ضعف الإنتاج. وترتب عليه ظهور بوادر الملوحة على سطح الأرض.
هذه العوامل كلها تحولت إلى هموم وأعباء إضافية على الفلاح هزمته وأثقلت كاهله. وكانت النتيجة أنه أصبح يبيع محاصيله إما بخسارة أو بأسعار لا تعود عليه بما يستحقه من ربح.
وبات معروفا أن محصول الذرة خسارته مؤكدة، حيث يضطر الفلاح إلى زراعته لإطعام الماشية والطيور، رغم أنه يخسر في الأردب نحو عشرين جنيها.
ومعروف أن محصول البطاطس ضرب هذا العام بسبب عدم التصدير، وشمل ذلك الموالح أيضا التي بيعت على أرضها بأبخس الأثمان لذات السبب.
وطالت الأزمة القطن الذي كان يسمى بالذهب الأبيض. ولكنه أصبح يتراكم الآن عاما بعد عام، وتحول إلى عبء على المنتجين.
في هذه الأجواء اختفت فكرة التسويق التعاوني وأصبح الفلاح تحت رحمة الوسيط الذي يقهره ويبتزه، كما لم يعد هناك وجود لدور الإرشاد الزراعي الحكومي.
حتى نقل المحاصيل بات مشكلة لأن شبكة الطرق الريفية غير المسفلتة التي تمثل جسور الترع والمدقات لم تعد صالحة للاستعمال، بعدما كاد يلتهمها التمدد العمراني،
إن مصر التلفزيونية تضللنا وتعزلنا عما يجري في قاع المجتمع.
No comments:
Post a Comment