Slide Ads

Monday, December 26, 2011

مَن الهمجى؟ مقالة تاريخية


استقر فى وعى الكثيرين منا أننا شعب همجى. ماذا تعنى الهمجية؟ أننا غير قادرين على تنظيم أنفسنا، أو الحياة فى نظام، لأننا -بطبيعتنا- ننحو إلى الفوضى والهمجية. هكذا جُبلنا، ولا نستطيع للأمر دفعا. طيب والحل؟ قالوا الحل من مرحلتين: الأولى أن نحكم بيد من حديد كى لا تدمر همجيتنا النظام العام، والثانية أن يتم تعليمنا كى نتحضر، شيئا فشيئا، فندخل تدريجيا إلى مصاف الشعوب المتحضرة.
السافل الذى ابتدع هذه الفكرة ليس فقط المستبد الذى استفاد من إقناعنا بذلك، وإنما سيده، المستعمر الأوربى القديم. لماذا؟ لأن الادعاء بهمجيتنا يعطيه المسوغ الأخلاقى للسيطرة علينا، تماما مثلما يعطى الحاكم المحلى المستبد الحق فى حكمنا بيد من حديد. ولماذا يحتاج المستعمر الأوربى، بقوته وتفوقه العسكرى والعلمى والتنظيمى، إلى مثل هذا المسوغ؟ لأنه يحكم دولة ديمقراطية، ومضطر إلى شرح سياسته لأغلبية سكانه. والأغلبية لن تفهم التناقض الشديد بين سلوك حكومتهم الديمقراطى داخل بلدهم، وسلوكها الاستبدادى المتوحش فى بلادنا. القول بأننا همج، لا نستطيع تنظيم أنفسنا، هو المبرر الفكرى الذى يجعل إهدار حقوقنا أمرا مقبولا لنظم ديمقراطية ليبرالية مثلما كان الحال فى إنجلترا وفرنسا طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين أو مثلما هو الحال اليوم مع أمريكا. وهكذا قسموا العالم إلى دارين: دار الرقى، حيث يسود القانون ويكون للناس حقوق ويشاركون فى حكم أنفسهم، ودار الهمجية، حيث تجبّ اعتبارات «الأمن» أى قانون، وتهدر الحقوق إن تعارضت مع مقتضيات فرض النظام.
كيف نجحت نظم أجنبية فى إقناعنا بذلك؟ من خلال تحالفها مع المستبد المحلى، ومن خلال غسل عقولنا بثقافة استعلائية ودعاية مغرضة وسيطرة تدمر ثقتنا بأنفسنا. ومن كان شريكه فى كل هذا؟ حاكمنا المستبد، وطبقة المنتفعين المهللين له ولأسياده.
فى عام 1879 حارب مجلس النواب المصرى من أجل انتزاع حق مساءلة الحكومة والنظر فى ميزانية الدولة وإقرارها أو رفضها. ظل مجلس النواب يضغط حتى رضخ الخديو إسماعيل لهذه المطالب. فمن الذى عارض؟ بريطانيا الديمقراطية، التى يتمتع برلمانها بهذه السلطات وأكثر. ما تبريرها لهذه المعارضة؟ أن هؤلاء النواب نخبة لا تعبر عن الأغلبية، وأن الأغلبية همج، كل ما يهتمون به هو قوت يومهم وتوفير الأمن لهم. نفس الكلام. أطاحت بريطانيا بالخديو إسماعيل وأتت بتوفيق بدلا منه وساندته فى مواجهة البرلمان المصرى مساندة انتهت باحتلالها الفعلى لمصر.
الذى حارب من أجل إقرار الديمقراطية فى مصر منذ 140 عاما هو الشعب، المتهم بالهمجية، ونوابه المنتخبون. والذى حارب الديمقراطية ووأدها هو الحكومة البريطانية «الديمقراطية» وولى نعمتها، الحاكم المصرى المستبد. وعلى مدى المئة والأربعين عاما التالية ظل مندوبو بريطانيا، ومن بعدهم «خبراء الشرق الأوسط» فى المؤسسات الأمريكية والأوروبية، يرددون أن الشعب المصرى «غير جاهز» للديمقراطية، لانتشار الفقر والمرض والتخلف الاجتماعى، أى الهمجية. وظل فريق الكورال المحلى، المكون من الحاكم المستبد وبطانته وأبواقه الإعلامية والثقافية، يرددون هذه الترهات وينشرونها بين الناس.
صار الخديو ملكا، والملك رئيسا، وذهب إقطاع وجاء إقطاع، ولم يتغير شىء فى هذه المنظومة: حاكم أجنبى يبحث عن مصلحته، ينظر إلى هؤلاء «الهمج» بمزيج من الاستعلاء والخوف، وحاكم محلى مستبد يحمى مصالح ولى نعمته بأجر، ويخيفه أكثر وأكثر من «الهمج» كى يضمن لنفسه ومن يخلفه هذه الوظيفة. وفى نفس الوقت، يقنع هذا الحاكم وبطانته الشعب بأنهم فعلا همج، وأنه لو رحل لجاءهم الطوفان من بينهم، بل ويخيفهم من الأجنبى -صديقه وولى نعمته- ويقنعهم بأنه هو الذى يحميهم منه.
بذمتك، مَن هو الهمجى فى هذه المنظومة؟

No comments: